فصل: ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر ما جرى لأتابك سعد مع أولاده

لما قتل أغلمش صاحب بلاد الجبل همذان وأصفهان وما بينهما من البلاد جمع أتابك سعد بن دكلا صاحب فارس عساكره وسار عن بلاده إلى أصفهان فملكها وأطاعه أهلها فطمع في تلك البلاد جميعها فسار عن أصفهان إلى الري فلما وصل إليها لقي عساكر خوارزم شاه قد وصلت كما ذكرناه فعزم على محاربة مقدمة العسكر فقاتلها حتى كاد يهزمها فظهرت عساكر خوارزم شاه ورأى الجتر فسقط في يده وألقى نفسه وضعفت قوته وقوة عسكره فولوا الأدبار وأخذ أتابك سعد أسيرًا وأحضر بين يدي خوارزم شاه فأكرمه وطيب نفسه ووعده الإحسان واستصحبه معه إلى أن وصل إلى أصفهان فسيره منها إلى بلاده وهي تجاورها وسير معه عسكرًا مع أمير كبير ليتسلم منه ما كان استقر بينهما فإنهما اتفقا على أن يكون لخوارزم شاه بعض البلاد ولأتابك سعد بعضها وتكون الخطبة لخوارزم شاه في البلاد جميعها‏.‏

وكان أتابك سعد قد استخلف ابنًا له على البلاد فلما سمع الابن بأسر أبيه خطب لنفسه بالمملكة وقطع خطبة أبيه فلما وصل أبوه ومعه عسكر خوارزم شاه امتنع الابن من تسليم البلاد إلى أبيه وجمع العساكر وخرج يقاتله فلما تراءى الجمعان انحازت عساكر فارس إلى صاحبها أتابك سعد وتركوا ابنه في خاصته فحمل على أبيه فلما رآه أبوه ظن أنه لم يعرفه ووصل أتابك سعد إلى البلاد فدخلها مالكًا لها وأخذ ابنه أسيرًا فسجنه إلى الآن إلا أنني سمعت الآن وهو سنة عشرين وستمائة أنه قد خفف حبسه ووسع عليه‏.‏

ولما عاد خوارزم شاه إلى خراسان غدر سعد بالأمير الذي عنده فقتله ورجع عن طاعة خوارزم شاه واشتغل خوارزم شاه بالحادثة العظمى التي شغلته عن هذا وغيره ولكن الله انتقم له بابنه غياث الدين كما ذكرناه سنة عشرين وستمائة لأن سعدًا كفر إحسان خوارزم شاه وكفر الإحسان عظيم العقوبة‏.‏

مدينة دمياط وعودها إلى المسلمين كان من أول هذه الحادثة إلى آخرها أربع سنين غير شهر وإنما ذكرناها هاهنا لأن ظهورهم كن فيها وسقناها سياقة متتابعة ليتلو بعضها بعضًا فنقول‏:‏

في هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر من رومية الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال إلا أن المتولي لها كان صاحب رومية لأنه يتنزل عند الفرنج بمنزلة عظيمة لا يرون مخالفة أمره ولا العدول عن حكمه فيما سرهم وساءهم فجهز العساكر من عنده مع جماعة من مقدمي الفرنج وأمر غيره من ملوك الفرنج إما أن يسير بنفسه أو يرسل جيشًا ففعلوا ما أمرهم فاجتمعوا بعكا من ساحل وكان الملك العادل أبو بكر بن أيوب بمصر فسار منها إلى الشام فوصل إلى الرملة ومنها إلى لد وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه فسار العادل نحوهم فوصل إلى نابلس عازمًا على أن يسبقهم إلى أطراف البلاد مما يلي عكا ليحميها منهم فساروا هم فسبقوه فنزل على بيسان من الأردن فتقدم الفرنج إليه في شعبان عازمين على محاربته لعلمهم أنه في قلة من العسكر لأن العساكر كانت متفرقة في البلاد‏.‏

فلما رأى العادل قربهم منه لم ير أن يلقاهم في الطائفة التي معه خوفًا من هزيمة تكون عليه وكان حازمًا كثير الحذر ففارق بيسان نحو دمشق ليقيم بالقرب منها ويرسل إلى البلاد ويجمع العساكر فوصل إلى مرج الصفر فنزل فيه‏.‏

وكان أهل بيسان وتلك الأعمال لما رأوا الملك العادل عندهم اطمأنوا فلم يفارقوا بلادهم ظنًا منهم أن الفرنج لا يقدمون عليه فلما أقدموا سار على غفلة من الناس فلم يقدر على النجاة إلا القليل فأخذ الفرنج كل ما في بيسان من ذخائر قد جمعت وكانت كثيرة وغنموا شيئًا كثيرًا ونهبوا البلاد من بيسان إلى بانياس بثوا السرايا في القرى فوصلت إلى خسفين ونوى وأطراف البلاد ونازلوا بانياس وأقاموا عليها ثلاثة أيام ثم عادوا عنها إلى مرج عكا ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرة سوى ما قتلوا وأحرقوا وأهلكوا فأقاموا أيامًا ثم جاؤوا إلى صور وقصدوا بلد الشقيف ونزلوا بينهم وبين بانياس مقدار فرسخين فنهبوا البلاد‏:‏ صيدا والشقيف وعادوا إلى عكا وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد والذي سلم من تلك البلاد كان مخفًا حتى قدر على النجاة‏.‏

ولقد بلغني أن العادل لما سار إلى مرج الصفر رأى في طريقه رجلًا يحمل شيئًا وهو يمشي تارة وتارة يقعد ليستريح فعدل العادل إليه وحده فقال له‏:‏ يا شيخ لا تعجل وارفق بنفسك‏!‏ فعرفه الرجل فقال‏:‏ يا سلطان المسلمين‏!‏ أنت لا تعجل فإنا إذا رأيناك قد سرت إلى بلادك وتركتنا مع الأعداء كيف لا نعجل‏!‏ وبالجملة الذي فعله العادل هو الحزم والمصلحة لئلا يخاطر باللقاء على حال تفرق من العساكر ولما نزل العادل على مرج الصفر سير ولده الملك المعظم عيسى وهو صاحب دمشق في قطعة صالحة من الجيش إلى نابلس ليمنع الفرنج عن البيت المقدس‏.‏

  ذكر حصر الفرنج قلعة الطور وتخريبها

لما نزل الفرنج بمرج عكا تجهزوا وأخذوا معهم آلة الحصار من مجانيق وغيرها وقصدوا قلعة الطور وهي قلعة منيعة على رأس جبل بالقرب من عكا العادل قد بناها عن قريب فتقدموا فاتفق أن بعض المسلمين ممن فيها قتل بعض ملوكهم فعادوا عن القلعة فتركوها وقصدوا عكا وكانت مدة مقامهم على الطور سبعة عشر يومًا‏.‏

ولما فارقوا الطور أقاموا قريبًا ثم ساروا في البحر إلى ديار مصر على ما نذكره إن شاء الله تعالى فتوجه الملك المعظم إلى قلعة الطور فخربها إلى أن ألحقها بالأرض لأنها بالقرب من عكا ويتعذر حفظها‏.‏

  ذكر حصر الفرنج دمياط إلى أن ملكوها

لما عاد الفرنج من حصار الطور أقاموا بعكا إلى أن دخلت سنة خمس عشرة وستمائة فساروا في البحر إلى دمياط فوصلوا في صفر فأرسلوا على بر الجيزة بينهم وبين دمياط النيل فإن بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط وقد بني في النيل برج كبير منيع وجعلوا فيه سلاسل من حديد غلاظ ومدوها في النيل إلى سور دمياط لتمنع المراكب الواصلة في البحر المالح أن تصعد في النيل إلى ديار مصر ولولا هذا البرج وهذه السلاسل لكانت مراكب العدو لا يقدر أحد على منعها عن أقاصي ديار مصر وأدانيها‏.‏

فلما نزل الفرنج على بر الجيزة وبينهم وبين دمياط النيل بنوا عليه سورًا وجعلوا خندقًا يمنعهم من يريدهم وشرعوا في قتال من بدمياط وعملوا آلات ومرمات وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى هذا البرج ليقاتلوه ويملكوه‏.‏

وكان البرج مشحونًا بالرجال وقد نزل الملك الكامل ابن الملك العادل وهو صاحب ديار مصر بمنزلة تعرف بالعادلية بالقرب من دمياط والعساكر متصلة من عنده إلى دمياط ليمنع العدو من العبور إلى أرضهم‏.‏

وأدام الفرنج قتال البرج وتابعوه فلم يظفروا منه بشيء وكسرت مرماتهم وآلاتهم ومع هذا فهم ملازمون لقتاله فبقوا كذلك أربعة أشهر ولم يقدروا على أخذه فلما ملكوه قطعوا السلاسل لتدخل مراكبهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر فنصب الملك الكامل عوض السلاسل جسرًا عظيمًا امتنعوا به من سلوك النيل ثم أنهم قاتلوا عليه أيضًا قتالًا شديدًا كثيرًا متتابعًا حتى قطعوه فلا قطع أخذ الملك الكامل عدة مراكب كبار وملأها وخرقها وغرقها في النيل فمنعت المراكب من سلوكه‏.‏

فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجًا هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديمًا فحفروا ذلك الخليج وعمقوه فوق المراكب التي جعلت في النيل وأجروا الماء فيه إلى البحر المالح وأصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له بورة على أرض الجيزة أيضًا مقابل المنزلة التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك فإنهم لم يكن لهم إليه طريق يقاتلونه فيها كانت دمياط تحجز بينهم وبينه فلما صاروا في بورة حاذوه فقاتلوه في الماء وزحفوا غير مرة فلم يظفروا بطائل‏.‏

ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأن الميرة والأمداد متصلة بهم والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج فهم ممتنعون لا يصل إليهم أذى وأبوابها مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر‏.‏

فاتفق كما يريد الله عز وجل أن الملك العادل توفي في جمادى الآخرة من سنة خمس عشرة وستمائة على ما نذكره إن شاء الله فضعفت نفوس الناس لأنه السلطان حقيقة وأولاده وإن كانوا ملوكًا إلا أنهم يحكمه والأمر إليه وهو ملكهم البلاد فاتفق موته والحال هكذا من مقاتلة العدو‏.‏

وكان من جملة الأمراء بمصر أمير يقال له عماد الدين أحمد بن علي ويعرف بابن المشطوب وهو من الأكراد الهكارية وهو أكبر أمير بمصر وله لفيف كثير وجميع الأمراء وأرادوا أن يخلعوا الملك الكامل من الملك ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصير الحكم إليهم عليه وعلى البلاد فبلغ الخبر إلى الكامل ففارق المنزلة ليلًا جريدة وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح فنزل عندها وأصبح العسكر وقد فقدوا سلطانهم فركب كل إنسان منهم هواه ولم يقف الأخ على أخيه ولم يقدروا على أخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلا اليسير الذي يخف حمله وتركوا الباقي بحاله من ميرة وسلاح ودواب وخيام وغير ذلك ولحقوا بالكامل‏.‏

وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد فلم يروا من المسلمين أحدًا على شاطئ النيل كجاري عادتهم فبقوا لا يدرون ما الخبر وإذ قد أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقة فعبروا حينئذ النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازع ولا ممانع وكان عبورهم في العشرين من ذي القعدة سنة خمس عشرة وستمائة فغنموا ما في معسكر المسلمين فكان عظيمًا يعجز العادين‏.‏

وكان الملك الكامل يفارق الديار المصرية لأنه لم يثق بأحد من عسكره وكان الفرنج ملكوا الجميع بغير تعب ولا مشقة فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل وصل إلى أخيه الكامل بعد هذه الحركة بيومين والناس في أمر مريج فقوي به قلبه واشتد ظهره وثبت جنانه وأقام بمنزلته وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام فاتصل بالملك الأشرف وصار من جنده‏.‏

فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط اجتمعت العرب على اختلاف قبائلها ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط وقطعوا الطريق وأفسدوا وبالغوا في الإفساد فكانوا أشد على المسلمين من الفرنج وكان أضر شيء على أهل دمياط أنها لم يكن بها من العسكر أحد لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدو عنها فأتتهم هذه الحركة بغتة فلم يدخلها أحد من العسكر وكان ذلك من فعل ابن المشطوب لا جرم لم يمهله الله وأخذه أخذة رابية على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وأحاط الفرنج بدمياط وقاتلوها برًا وبحرًا وعملوا عليهم خندقًا يمنعهم من يريدهم من المسلمين وهذه كانت عادتهم وأداموا القتال واشتد الأمر على أهلها وتعذرت عليهم الأقوات وغيرها وسئموا القتال وملازمته لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتهم وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتال بينهم مناوبة ومع هذا فقد صبروا صبرًا لم يسمع بمثله وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض ودام الحصار عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلتهم وتعذر القوت عندهم فسلموا البلد إلى الفرنج في هذا التاريخ بالأمان فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة فتفرقوا أيدي سبا‏.‏

  ذكر ملك المسلمين دمياط من الفرنج

لما ملك الفرنج دمياط أقاموا بها وبثوا سراياهم في كل ما جاورهم من البلاد ينهبون ويقتلون وأما الملك الكامل فإنه أقام بالقرب منهم في أطراف بلاده يحميها منهم‏.‏

ولما سمع الفرنج في بلادهم بفتح دمياط على أصحابهم أقبلوا إليهم يهرعون من كل فج عميق وأصبحت دار هجرتهم وعاد الملك المعظم صاحب دمشق إلى الشام فخرب البيت المقدس وإنما فعل ذلك لأن الناس كافة خافوا الفرنج وأشرف الإسلام وجميع أهله وبلاده على خطة خسف في شرق الأرض وغربها‏:‏ أقبل التتر من المشرق حتى وصلوا إلى نواحي العراق وأذربيجان وأران وغيرها على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأقبل الفرنج من المغرب فملكوا مثل دمياط في الديار المصرية مع عدم الحصون المانعة بها من الأعداء وأشرف سائر البلاد بمصر والشام على أن تملك وخافهم الناس كافة وصاروا يتوقعون البلاء صباحًا ومساء‏.‏

وأراد أهل مصر الجلاء عن بلادهم خوفًا من العدو ‏{‏ولات حين مناص‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والعدو قد أحاط بهم من كل جانب ولو مكنهم الكامل من ذلك لتركوا البلاد خاوية على عروشها وإنا منعوا منه فثبتوا‏.‏

وتابع الملك الكامل كتبه إلى أخويه المعظم صاحب دمشق والملك الأشرف موسى بن العادل صاحب ديار الجزيرة وأرمينية وغيرهما يستنجدهما ويحثهما على الحضور بأنفسهما فإن لم يكن فيرسلان العساكر إليه فسار صاحب دمشق إلى الأشرف بنفسه بحران فرآه مشغولًا عن إنجادهم بما دهمه من اختلاف الكلمة عليه وزوال الطاعة عن كثير ممن كان يطيعه ونحن نذكر ذلك سنة خمس عشرة وستمائة إن شاء الله عند وفاة الملك القاهر صاحب الموصل فليطلب من هناك فعذره وعاد عنه وبقي الأمر كذلك مع الفرنج‏.‏

فأما الملك الأشرف فزال الخلف من بلاده ورجع الملوك الخارجون عن طاعته إليه واستقامت له الأمور إلى سنة ثماني عشرة وستمائة والملك الكامل مقابل الفرنج‏.‏

فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة علم بزوال مانع الملك الأشرف عن إنجاده فأرسل يستنجده وأخاه صاحب دمشق فسار صاحب دمشق المعظم إلى الأشرف يحثه على المسير ففعل وسار إلى دمشق فيمن معه من العساكر وأمر الباقين باللحاق به إلى دمشق وأقام بها ينتظرهم فأشار عليه بعض أمرائه وخواصه بإنفاذ العساكر والعود إلى بلاده خوفًا من اختلاف يحدث بعده فلم يقبل قولهم وقال‏:‏ قد خرجت للجهاد ولا بد من إتمام ذلك العزم فسار إلى مصر‏.‏

وكان الفرنج قد ساروا عن دمياط في الفارس والراجل وقصدوا الملك الكامل ونزلوا مقابله بينهما خليج من النيل يسمى بحر أشموم وهم يرمون بالمنجنيق والجرخ إلى عسكر المسلمين وقد تيقنوا هم وكل الناس أنهم يملكون الديار المصرية‏.‏

وأما الأشراف فإنه سار حتى وصل مصر فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه إليه فلقيه واسبتشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما لعل الله يحدث بذلك نصرًا وظفرًا‏.‏

وأما الأشرف فإنه سار حتى وصل مصر فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه إليه فلقيه واسبتشر هو وسائر المسلمين باجتماعهما لعل الله يحدث بذلك نصرًا وظفرًا‏.‏

وأما الملك المعظم صاحب دمشق فإنه سار أيضًا إلى ديار مصر وقصد دمياط ظنًا منه أن أخويه وعسكريهما قد نازلوها وقيل بل أخبر في الطريق أن الفرنج قد توجهوا إلى دمياط فسابقهم إليها ليلقاهم من بين أيديهم وأخواه من خلفهم والله أعلم‏.‏

ولما اجتمع الأشراف بالكامل استقر الأمر بينهما على التقدم إلى خليج من النيل يعرف ببحر المحلة فتقدموا إليه فقاتلوا الفرنج وازدادوا قربًا وتقدمت شواني المسلمين من النيل وقاتلوا شواني الفرنج فأخذوا منها ثلاث قطع بمن فيها من الرجال وما فيها من الأموال والسلاح ففرح المسلمون بذلك واسبتشروا وتفاءلوا وقويت نفوسهم واستطالوا على عدوهم‏.‏

هذا يجري والرسل مترددة بينهم في تقرير قاعدة الصلح وبذل المسلمون لهم تسليم البيت المقدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين من الفرنج بالساحل وقد تقدم ذكره ما عدا الكرك ليسلموا دمياط فلم يرضوا وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار فبينما الأمر في هذا وهم يمتنعون اضطر المسلمون إلى قتالهم وكان الفرنج لاعتدادهم بنفوسهم لم يستصحبوا معهم ما يقوتهم عدة أيام ظنًا منهم أن العساكر الإسلامية لا تقوم لهم وأن القرى والسواد جميعه يبقى بأيديهم ويأخذون منه ما أرادوا من الميرة لأمر يريده الله تعالى بهم فعبر طائفة من المسلمين إلى الأرض التي عليها الفرنج ففجروا النيل فركب الماء أكثر تلك الأرض ولم يبق للفرنج جهة يسلكون منها غير جهة واحدة فيها ضيق فنصب الكامل حينئذ الجسور على النيل عند أشموم وعبرت العساكر عليها فملك الطريق الذي يسلكه الفرنج إن أرادوا العود إلى دمياط فلم يبق لهم خلاص‏.‏

واتفق في تلك الحال أنه وصل إليهم مركب كبير للفرنج من أعظم المراكب يسمى مرمة وحوله عدة حراقات تحميه والجميع مملوء من الميرة والسلاح وما يحتاجون إليه فوقع عليها شواني المسلمين وقاتلوهم فظفروا بالمرمة وبما معها من الحراقات وأخذوها فلما رأى الفرنج ذلك سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا الصواب بمفارقة دمياط في أرض يجهلونها‏.‏

هذا وعساكر المسلمين محيطة بهم يرمونهم بالنشاب ويحملون على أطرافهم فلما اشتد الأمر على الفرنج أحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأثقالهم وأرادوا الزحف إلى المسلمين ومقاتلتهم لعلم يقدرون على العود إلى دمياط فرأوا ما أملوه بعيدًا وحيل بينهم وبين ما يشتهون لكثرة الوحل فلما تيقنوا أنهم قد أحيط بهم من سائر جهاتهم وأن ميرتهم قد تعذر عليهم وصولها وأن المنايا قد كشرت لهم عن أنيابها ذلت نفوسهم وتكسرت صلبانهم وضل عنهم شيطانهم فراسلوا الملك الكامل والأشرف يطلبون الأمان ليسلموا دمياط بغير عوض فبينما المراسلات مترددة إذ أقبل جمع كبير لهم رهج شديد وجلبة عظيمة من جهة دمياط فظنه المسلمون نجدة أتت للفرنج فاستشعروا وإذا هو الملك المعظم صاحب دمشق قد وصل إليهم وكان قد جعل طريقه على دمياط لما ذكرناه فاشتدت ظهور المسلمين وازداد الفرنج خذلانًا وكان قد جعل طرقه على دمياط لما ذكرناه فاشتدت ظهور المسلمين وازداد الفرنج خذلانًا ووهنًا وتمموا الصلح على تسليم دمياط واستقرت القاعدة والأيمان سابع رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة وانتقل ملوك الفرنج وكنودهم وقمامصتهم إلى الملك الكامل والأشرف رهائن على تسليم دمياط ملك عكا ونائب بابا صاحب رومية وكند ريش وغيرهم وعدتهم عشون ملكًا وراسلوا قسوسهم ورهبانهم إلى دمياط في التسليم فلم يمتنع من هبا وسلموها إلى المسلمين تاسع رجب المذكور وكان يومًا مشهودًا‏.‏

ومن العجب أن المسلمين لما تسلموها وصلت للفرنج نجدة في البحر فلو سبقوا المسلمين إليها لامتنعوا من تسليمها ولكن سبقهم المسلمون ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ولم يبق بها من أهلها إلا آحاد وتفرقوا أيدي سبا وبعضهم سار عنها باختياره وبعضهم مات وبعضهم أخذه الفرنج‏.‏

ولما دخلها المسلمون رأوها وقد حصنها الفرنج تحصينًا عظيمًا بحيث بقيت لا ترام ولا يوصل إليها وأعاد الله سبحانه وتعالى الحق إلى نصابه ورده إلى أربابه وأعطى المسلمين ظفرًا مل يكن في حسابهم فإنهم كانت غاية أمانيهم أن يسلموا البلاد التي أخذت منهم بالشام ليعيدوا دمياط فرزقهم الله إعادة دمياط وبقيت البلاد بأيديهم على حالها فالله المحمود المشكور على ما أنعم به على الإسلام والمسلمين من كف عادية هذا العدو وكفاهم شر التتر على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في المحرم كانت ببغداد فتنة بين أهل المأمونية وبني أهل باب الأزج بسبب قتل سبع وزاد الشر بينهم واقتتلوا فجرح بينهم كثير فحضر نائب الباب وكفهم عن ذلك فلم يقبلوا ذلك وأسمعوه ما يكره فأرسل من الديوان أمير من مماليك الخليفة فرد أهل كل محلة إلى محلتهم وسكنت الفتنة‏.‏

وفيها كثر الفأر ببلدة دجيل من أعمال بغداد فكان الإنسان لا يقدر أن يجلس إلا ومعه عصًا يردج الفأر عنه وكان يرى الكثير منه ظاهرًا يتبع بعضه بعضًا‏.‏

وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة لم يشاهد في قديم الزمان مثلها وأشرفت بغداد على الغرق فركب الوزير والأمراء والأعيان كافة وجمعوا الخلق العظيم من العامة وغيرهم لعمل القورج حول البلد وقلق الناس لذلك وانزعجوا وعاينوا الهلاك وأعدوا السفن لينجوا فيها وظهر الخليفة للناس وحثهم على العمل وكان مما قال لهم‏:‏ لو كان يفدى ما أرى بمال أو غيره لفعلت ولو دفع بحرب لفعلت ولكن أمر الله لا يرد‏.‏

ونبع الماء من البلاليع والآبار من الجانب الشرقي وغرق كثير منه وغرق مشهد أبي حنيفة وبعض الرصافة وجامع المهدي وقرية الملكية والكشك وانقطعت الصلاة بجامع السلطان‏.‏

وأما الجانب الغربي فتهدم أكثر القرية ونهر عيسى والشطيات وخربت البساتين ومشهد باب التبن ومقبرة أحمد ابن حنبل والحريم الطاهري وبعض باب البصرة والدور التي على نهر عيسى وأكثر محلة قطفتا‏.‏

وفيها توفي أحمد بن أبي الفضائل عبد المنعم بن أبي البركات محمد بن طاهر ابن سعيد بن فضل الله بن سعيد بن أبي الخير الميهني الصوفي أبو الفضل شيخ رباط الخليفة ببغداد وكان صالحًا

  ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة

  ذكر وفاة الملك القاهر

وولاية ابنه نور الدين وما كان من الفتن بسبب موته إلى أن استقرت الأمور في هذه السنة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر‏.‏

وكان سبب موته أنه أخذته حمى ثم فارقته الغد وبقي يومين موعوكًا ثم عاودته الحمى مع فيء كثير وكرب شديد وقلق متتابع ثم برد بدنه وعرق وبقي كذلك إلى وسط الليل ثم توفي‏.‏

وكان كريمًا حليمًا قليل الطمع في أموال الرعية كافًا عن أذى يوصله إليهم مقبلًا على لذاته كأنما ينهبها ويبادر بها الموت وكن عنده رقة شديدة ويكثرذكر الموت‏.‏

حكى لي بعض من كان يلازمه قال‏:‏ كنا ليلة قبل وفاته بنصف شهر عنده فقال لي‏:‏ قد وجدت ضجرًا من القعود فقم بنا نتمشى إلى الباب العمادي قال‏:‏ فقمنا فخرج من داره نحو الباب العمادي فوصل التربة التي عملها لنفسه عند داره فوقف عندها مفكرًا لا يتكلم ثم قال لي‏:‏ والله ما نحن في شيء‏!‏ أليس مصيرنا إلى هاهنا وندفن تحت الأرض وأطال الحديث في هذا ونحوه ثم عاد إلى الدار فقلت له‏:‏ ألا نمشي إلى الباب العمادي فقال‏:‏ ما بقي عندي نشاط إلى هذا ولا إلى غيره ودخل داره وتوفي بعد أيام‏.‏

وأصيب أهل بلاده بموته وعظم عليهم فقده وكان محبوبًا إليهم قريبًا من قلوبهم ففي كل دار لأجله رنة وعويل ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه وعمره حينئذ نحو عشر سنين وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤ وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله وقد تقدم من أخباره ما يعرف به محله وسيرد منها أيضًا ما يزيد الناظر بصيرة فيه‏.‏

فلما قضى نحبه قام بدر الدين بأمر نور الدين وأجلسه في مملكة أبيه وأرسل إلى الخليفة يطلب له التقليد والتشريف وأرسل إلى الملوك وأصحاب الأطراف المجاورين لهم يطلب منهم تجديد العهد لنور الدين على القاعدة التي كانت بينهم وبين أبيه فلم يصبح إلا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه وجلس للعزاء وحلف الجند والرعايا وضبط المملكة من التزلزل والتغير مع صغر السلطان وكثرة الطامعين في الملك فإنه كان معه في البلد أعمام أبيه وكان عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بولايته وهي قلعة عقر الحميدية يحدث نفسه بالملك لا يشك في أن الملك يصير إليه بعد أخيه فرقع بدر الدين ذلك الخرق ورتق ذلك الفتق وتابع الإحسان والخلع على الناس كافة وغير ثياب الحداد عنهم فلم يخص بذلك شريفًا دون مشروف ولا كبيرًا دون صغير وأحسن السيرة وجلس لكف ظلامات الناس وإنضاف بعضهم من بعض‏.‏

وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر في أمر دولته والتشريفات لهما أيضًا وأتتهما رسل الملوك بالتعزية وبذل ما طلب منهم من العهود واستقرت القواعد لهما‏.‏